من أخلاق نور الدين
لقد ذكر المؤرخون أخباراً عجيبة عن أخلاق نور الدين، فقالوا: "كان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف إلا من ملك له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة" أي: أنه جاهد وأخذ سهمه من الغنيمة كجملة المجاهدين وأخذ ينميه فكان أحد مصادر دخله، وهو يملك هذه البلاد.
وكان له مصدر آخر عجيب للدخل، يقول سبط ابن الجوزي: "كان له عجائز -كان هناك عجائز يتعامل معهن- وكان يخيط الكوافي، ويعمل السكاكر -وهو السلطان نور الدين الذي يحارب ملوك أوروبا جميعاً- فيعطيها العجائز، فيبعنها سراً، ويفطر على ثمنها؛ لأنه كان كثير الصيام نافلة، فيفطر من القوت الحلال الذي تبيعه له العجائز؛ حتى لا يأخذ من بيت المال أي شيء".
ومثل هذا جدير أن ينصره الله سبحانه وتعالى.
ومن عجائب أخباره: أن زوجته طلبت منه مالاً وألحت عليه، فتذكر أن من جملة سهمه من الغنيمة ثلاثة دكاكين له في حلب ؛ فأعطاها إياها -وهو السلطان الذي يحكم ما يعادل الآن ست أو ثمان دول- وقال: ليس لي إلا هذا، وأنا خازنٌ للمسلمين، ولا أملك أي شيء.
قال: "وكان يتهجد كثيراً، لم يترك في بلاده على سعتها مكساً".
ومن تواضعه رحمه الله أن أحد القواد أو المقربين إليه قال له في إحدى المعارك: بالله لا تخاطر بنفسك، فإن أصبت في المعركة لا يبقى من المسلمين أحد إلا أخذه السيف! فقال: ومن أنا حتى يقال لي هذا؟! حفظ الله البلاد قبلي لا إله إلا هو!
يقول: من أنا حتى إذا مت ضاع المسلمون؟! قد حفظ الله البلاد قبلي وسيحفظها من بعدي، وهذا يدل على شعوره العميق بعظمة الله سبحانه وتعالى وجلاله.
أعجب المسلمون إعجاباً شديداً بـنور الدين محمود، وأخذوا يضجون له بالدعاء لما نصره الله، ولما أبطل المكوس والضرائب والعشور التي كانت تؤخذ من المسلمين، ولما رأوا عدله وجهاده وتمسكه بالسنة كانوا يلهجون له بالدعاء في رمضان وغيره.
قال: وكانوا إذا دعوا له يطيلون في الدعاء ويبالغون في مدحه؛ فغضب، وقال: إن خطباء المساجد يبالغون في الدعاء لي؛ فجمع المقربين له، وقال لهم: لا بد أن تعدلوا هذا، فكتبوا له صيغة، وكلما وضعوا صيغة يخففها؛ حتى اتفقوا على صيغة واحدة يدعى له بها في المساجد وهي: (اللهم أصلح عبدك الفقير إلى رحمتك، الخاضع لهيبتك، المعتصم بقوتك، المجاهد في سبيلك، المرابط لأعداء دينك، أبا القاسم محمود بن زنكي بن آقسنقر ناصر أمير المؤمنين)؛ وذلك لأنه يدافع نيابة عن الخليفة؛ لا يزاد في الدعاء على هذه الصيغة، ولا داعي للمديح والاستطراد فيما لا خير فيه.
ولما قيل له في ذلك وعوتب، قال: مقصودي ألا يكذب على المنبر، أنا بخلاف كل ما يقال.. أفرح بما لا أعمل؟! قلة عقل عظيمة!! يقول: لا أحب أن أحمد بما لم أفعل؛ لأن من قلة العقل أن يقولوا: فتح وجاهد وفعل، وأنا ما فعلت، وقال لكاتبه: تكفي هذه الصيغة؛ اكتب بها نسخاً حتى نصيرها إلى جميع البلاد.
ثم قال: ثم يبدءون بالدعاء: اللهم أره الحق حقاً، اللهم أسعده، اللهم انصره، اللهم وفقه... يقول: دع الناس يدعون فقط من جنس هذا الدعاء، أما المدح والثناء فأنا لا أريده، ومن قلة العقل أن أدعهم يثنون علي بما ليس فيّ أو بما يغرني ويفتنني.
ولهذا يقول الحافظ الذهبي رحمه الله: "كان ديناً تقياً، لا يرى بذل الأموال إلا في نفع، وما للشعراء عنده نفاق". لا ينفق عنده سوق الشعراء الذين كانوا يمدحون من قبله ومن عاصره من الملوك والسلاطين، فيحشو أحدهم فم الشاعر باللآلئ التي يبلغ ثمن اللؤلؤة الواحدة منها عشرة آلاف دينار. لا سوق لهم كما كان عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه.
ولهذا قال فيه أسامة بن منقذ:
سلطاننا زاهدٌ والناس قد زهدوا لـه فكل على الخيرات منكمش
أيامه مثل شهر الصوم طاهرة من المعاصي وفيها الجوع والعطش
يقول: نحن الشعراء نعتبر أيام السلطان نور الدين مثل أيام رمضان، طاهرة من المعاصي، لكن فيها الجوع والعطش، الشعراء لا يجدون سوقاً، سواء قالوا القصائد أو لم يقولوا؛ فالأموال تذهب للجهاد.
و أسامة بن منقذ هذا كان فيه بعض موالاة للصليبيين، وكان يحب الدنيا؛ حتى إنه ذهب مع معين الدين آنر الذي كان في دمشق موالياً للنصارى، وكان سفيراً بينه وبين الصليبيين، وكثير من الشعراء والكتاب في كل زمان ومكان يبيعون دينهم، ويخونون أمتهم مقابل شيء من المال أو الشهرة.